كلنا الأردن-------

اما وقد استكمل منتدى"كلنا الاردن" مداولاته، فيتسنى لنا الآن الوقوف عليه بالتحليل والتقييم، وأستغرب بشدة اولئك الذين فعلوا ذلك قبل ان يطلعوا على المخرجات التي صدرت عن المؤتمر. الانغلاق على الذات وإصدار الاحكام المسبقة ظاهرة مرفوضة في السياسة الاردنية، ونعتقد ان من يفعل ذلك يؤذي مصداقيته بشدة، ويضعف قدرته على التأثير في الحياة العامة. المصداقيات تبنى عندما تقدم الحلول قبل الانتقاد، وعندما تذكر المحاسن قبل السيئات، وعندما تجند الآراء باتجاه داعم للغة النقد البناء، وتبتعد عن تلوين المواقف لاعتبارات وقناعات مبيتة مسبقا.
تراكم المبادرات دون ترجمة فعلية لها على ارض الواقع هو من اهم الانتقادات التي تم تداولها والتي تحمل شيئا من المنطق وتعبر عن درجة من انعدام الثقة بحدوث التغيير، وان لتراكم عدد من المبادرات والاجماعات كالميثاق الوطني، والاردن اولا، والاجندة الوطنية يقلل من الآمال المعقودة على لقاء كلنا الاردن الذي بات البعض ينظر له على انه مجرد مبادرة اخرى لا يجب التعويل عليها في احداث التغيير.
كلام كهذا، ينطوي على شيء من المنطق، لكنه بحاجة لتفنيد ومشكلتنا الاساسية معه انه يحمّل هذه اللقاءات اكثر مما تحتمل، فهي ليست مصممة لطرح الجدليات السياسية التفصيلية والخروج بحلول لها، وانما هو بمثابة آلية لمناقشة الخطوط العريضة التي تعرّف المرحلة والثوابت والتحديات. فالاصل في هذه اللقاءات ان تلتزم بهذه الأطر لا ان تقفز لغيرها. وهنا نعتقد ان المرحلة العصيبة والضبابية السائدة في الشرق الاوسط، والتي تضع الاردن امام تحديات تاريخية، تحتاج وبجدارة لمثل هذه اللقاءات التي تعزز المشاركة الشعبية، وتزيد الثقة بين صناع القرار والمجتمع، وهو الزاد الاهم في مرحلة خلط الاوراق الاقليمية السائدة.
"كلنا الاردن" جاء ايضا ليؤكد على الثوابت الوطنية، وان كنا نجد حرجا في الاعتراف ضمنا ان منا من لا يزال غير متقبل لهذه الثوابت، وهو امر خطير نعتقد انه يستحق التجريم السياسي، بل والقانوني، بخاصة ان ثوابتنا الوطنية ليست من النوع الخلافي، وقد تطورت عبر عقود من الزمن ومرور المجتمع بأزمات زادته منعة، وكان للجميع حق المساهمة في صياغة هذه الثوابت.
ان ثقل الوجود الرسمي والشعبي في اللقاء يعزل القلة غير المتقبلة للثوابت الوطنية، ويثبت لهم ان جل الاردن مع هذه الثوابت، وانه لا يجب ان يقاس تقبل جزء من الاردنيين لبعض سياسات المعارضة على انه تقبل لرفض جزء من المعارضة للثوابت الوطنية، وان الجزء الاعظم والاقوى من هذا المجتمع يقبل هذه الثوابت وان اختلف مع الحكومات بسياسات من هنا وهناك.
النتائج التي آل لها اللقاء لم تكن اقلاعا ثوريا عن سابقاتها، ولم يكن يراد لها ذلك، بل هي مؤكد ومعزز وشارح لما سبق من توافقات. وهنا نعتقد ان تكرار التأكيد على بعض الابجديات ليس مضرا ولا مضيعة للوقت، بل انه سينتج لنا اركان سياسة اردنية اجمع عليها مرارا، وقد يتم ايضا تفنيد بعض الجدليات واقصاؤها.
قوة هذا اللقاء ليس بمنتجه فقط، بل بالوسيلة وآلية العمل التي انتجته، فهذا ما يريده الاردنيون ممثلين ليس فقط بمن انتخبوا، بل بما هو ابعد بكثير من ذلك. الآلية تحقق هدفين: اولهما زيادة درجة التمثيل لشرائح المجتمع وقادة الرأي ما يعطي ثقل وصدقية لمنتج اللقاء، وثانيهما أنها تضع الناقدين والرافضين على المحك، وقد لمسنا موجة ارتياح من الذين شاركوا لمجرد انهم شاركوا وعبروا عما يجول بأذهانهم. وهذه الآلية اختبرت الذين اشبعونا صراخا وامتهنوا النقد مطالِبة اياهم بالمساهمة الايجابية بالمشروع الوطني. لكن يجب ان نعترف ان بعض هؤلاء تعززت قناعاتهم الرافضة، وذلك بعد ان رأوا عددا من اصحاب القرار واعيانه عاجزين عن الدفاع عن ابجديات الدولة متسائلين عن وسيلة تعيين هؤلاء ومنحهم ارفع المناصب، وباتوا متأكدين ان منهم من لا يستحق هذه المناصب، وهم مقتنعون اكثر الان ان الذين يقبعون في مناصبهم دون اي مساهمة تذكر بالمشروع الوطني، ولو بالنقاش، وذلك اضعف الايمان فهم على الارجح لا يستحقون هذه المناصب.
نرى"كلنا الاردن" شكلا ومضمونا على انه خطة استراتيجية تزود الحكومات المتعاقبة بالخطوط العريضة والرؤى البعيدة لعملها. هذا التقليد الاردني بصياغة القرارات الكبيرة، بدءا من الميثاق الوطني وانتهاء بكلنا الاردن، هو امر لا يتجاوز الحكومات، ولا يقفز عنها، لكنه يعترف انها جزء من الدولة، ولا بد من اشراك شرائح تمثل الدولة والمجتمع بشكل اشمل. وقد تعزز هذا التوجه بسبب تسارع تغيير الحكومات، لكنها جمعاء معنية ومكلفة بحمل التوافقات الوطنية وتطبيقها عمليا.